زرت الیوم بیت جدى .. وكنت افعل ذلك كل جمعة.. فى الفناء كانت
نخلتھ العالیة ..ألف حولھا وألھو سعیدا وأرى البلحات المتساقطة
تحتھا ثم ألملمھا فى طبق الخوص الكبیر وأذھب بھا إلى أصحابى
فى كتّاب القریة ..أوزعھا علیھم وأھادیھم بھا بعد إذن جدى الذى
یفرح بشدة .... أصحابى یبتھجون أیضا ویشھدون للبلحات بالطعم
اللذیذ ...!!!
ذات یوم لملمت البلحات كعادتى وكانت قلیلة ھذه المرة ! وعندما
وزعت على الأصحاب ومضوا بعد أن وعدتھم بتعویضھم فى المرة
القادمة إلا فاطمة بنت عم /سعد..وقفتْ بجوار باب الكتاب تنتظر ..!
شعرتُ بالحرج وقلت وأنا أنفض كفى ...:
ـ لم یعد معى بلح !!
مشت فاطمة ساكنة ..ودیعة ..ھى أصغر منى بسنتین على الأقل
..حاولت أن أعتذر لھا ولكنھا سبقتنى بمسافة ...ثم اننى لم أعرف
ماذا أقول لھا ..؟؟
قررت أن أمشى وراءھا لأطمأن على وصولھا لبیتھا بسلام
...أحسست أنھا تستحق المساعدة ..وانھا ضعیفة
دخلت البیت الذى كان محاطا بسور صغیر یكشف عن فناء واسع
ولھ بوابة خشبیة ذات طراز عتیق ...لا أعرف لماذا انتظرتُ بضع
دقائق أخرى ؟؟
ھا ھى تظھر من جدید..!
ما ھذا ؟؟
فاطمة ترتدى جلباباً ولیس فستانا كالذى تحضر بھ الكتاب..
ما أجمل ھذا الجلباب !!
مرسوم علیھ وردات حمراء متألقة وأغصان خضر وطیور بیضاء
تطیر ھنا وھناك..لاحظت أن الوجھ ما عاد حزینا وكأنھ تبدل
بالداخل مع ثیابھا ...!!!
أمسكت بمقشة صغیرة وصارت تكنس أرجاء البیت ..داعبتْ حملاً
صغیراً فصار یلعب معھا ثم سكبت لھ الماء فى وعاء عمیق ..
كنتُ أرقبھا ولا ترانى..
ظھرتْ أمھاـ على ما یبدوـ فقبلتْ جبینھا ویدھا وحملت عنھا طفلا ً
رضیعاً أحسبھ شقیقھا الصغیر ..استقبلتھ فى حضنھا وبدأت تغنى لھ
أغنیة رائعة ...تكرر مطلع الأغنیة فیبتسم الرضیع و یھدأ ثم یدخل
فى النوم ...
وضعتھ فى الفراش برفق
ثم جلست على الأرض وأمسكت بالورقة والقلم وبدأت فى كتابة
حروف الأبجدیة وھى تردد النطق بالفتح والضم والكسربصوت
خفیض ودون أن تخطئ ولو لمرة واحدة..!!
بعد دقائق..وضعت القلم والأوراق بجوارھا وأخذت تعد على
أصابعھا الدقیقة وحبات الفول من واحد لعشرة ..
أسندت رأسھا للحائط وھى تنظر للسماء وتبتسم إبتسامة حلوة
وكأنھا تراسل السحابات الصغیرة بسرٍ جمیل وبلغةٍ لایعرفھا سواھا
...
تعمدتُ فى ھذه اللحظة أن أصدر صوتاً حتى تنتبھ لوجودى أمام
منزلھم وبدوت وكأننى أمر بالصدفة...بادرتھا ..:
ـ أھلا فاطمة ... یالصدفة ! ھل تسكنین ھنا؟
ردت بلطف وإندھاش :
ـ نعم ھذا بیتنا
ـ أسمعى أرید أن أعرفك أن....
قاطعتنى قائلة :
ـ انتظرنى لحظة
دخلت لبیتھا مسرعة وغابت لدقیقة جلستُ فیھا على العتبة الأسمنتیة
وأكتشفت أنھا رسمت أشكالا غایة فى الروعة على الرمل الأصفر!
شراعا ًلمركبٍ صغیر..وشمسا تشرق ..وبنات یلعبن ْالغمیضة
وتتمیز عنھن واحدة بضحكة عفیّة تملأ وجھھا بالكامل..وتزین
ضفائرھا بشرائط تنطلق فى حریة ...!
انتبھت على صوتھا الودود وھى تمد یدھا لى ...:
ـ تفضل أستأذنت أمى فى ھذا الرغیف الطازج ھو لك ...بالھناء
والشفاء... ولكن احذر انھ سااااخن...!!!
ضحكتْ ببراءة ....
مضیتُ وظلت تلوّح لى... ولم أنطق بكلمة عن حكایة البلحات ..بل
اننى نسیت أمرھا تماماً
كل ما شعرت بھ اننى فرحٌ للغایة ..حاولت النظر إلى الخلف بعد
خطوات قلیلة...... وتأكدت ساعتھا أن شعرفاطمة الأسود تزینھ عدة
شرائط ملونة بألوان كثیرة زاھیة
بدت وكأنھا تغنى للجمیع ......!!!
(تمت)