أصبحَ بستانُ جدّي من ذكرياتِ الماضي، وغدا حكايةً حفظتُها عنهُ، وبنى والدي مكانَ شجرةِ جدّي الأخيرةِ غُرفةً لي لأستقلَّ في مُذاكرةِ دُروسي عن شقيقي وشقيقتي، ولم يتحقّقْ وعدُ أمّي بأنْ تزرعَ شجرةً شابّةً مكانَ الشَّجرةِ العجوزِ الّتي كنتُ وإيّاها أغلى ما أحَبَّ جدّي، فقد مضى أكثرُ من سنةٍ على رحيلِ شجرةِ جدّي، لكنّها لا تزالُ حيَّةً في روحي بـخُـضْرَتِها وأغصانِها وعصافيرِها الّتي كانَ جدّي يُـحـبُّ زقزقتَها، فقد كانَ يجلسُ تحتَ الشَّجرةِ، ويسرحُ في خيالِه، وأسمعُهُ أحياناً يُتَـمْـتِمُ بكلماتٍ لا أفهمُها، فأسألُهُ مازحاً: هل تُكلِّمُ أحداً يا جدّي؟! فيُشيرُ إليّ آمِراً بألّا أُحدِثَ ضجيجاً لأنّهُ مشغولٌ بموضوعٍ ما، وعليَّ ألّا أُقاطِعَه.
كانَ يَعُدُّ العصافيرَ، ويفرحُ كثيراً حينَ يُلاحظُ أنّ عددَها يكبرُ، ويحزنُ حينَ يشعرُ بأنّهُ يقلُّ، فماذا سيقولُ اليومَ – لو كانَ حيّاً - وقدِ انقطعتِ العصافيرُ عن زيارةِ بيتِنا.
لاحظَ الجميعُ تَراجُعَ مُستوايَ التَّعليميّ، فبعدَ أنْ كنتُ من الأوائلِ، أصبحتُ من الـمُتوسِّطِينَ، ولا أحدَ يَلُومُـني، أو يغضبُ منّي كما كان يفعلُ جدّي. سألتْني أمّي يوماً: لِـمَ لم تَعُدْ فَرِحاً كما كُنتَ؟ أجبتُ: لا أزالُ حزيناً على جدّي. قالتْ: كُلُّنا حَزانى، لكنْ ما الحلُّ؟ وأضافتْ كأنّها تُـحذِّرُني: إذا كنتَ تُـحِـبُّ جدَّكَ فاعملْ بما كانَ يُـحِـبُّهُ!
ومضيتُ إلى غرفتي، وبَكيتُ بصمتٍ، ثمّ صمّمتُ على أنْ أعِدَ أبي بأنْ أتفوّقَ في دراستي، وكانَ أملي أن أرى جدّي في الـحُلمِ، فرُبّما قالَ لي كلمةً تُـخَـفِّفُ من حُزني على فِراقِهِ، لكنَّ هذا لم يَـحْـدُثْ.
قلتُ لنفسي: صحيحٌ أنّهُ لم يبقَ شيءٌ من آثارِ جدّي، لكنّني أشعرُ بأنّني أُشبِهُهُ كثيراً، بل أُحبُّ كُلَّ ما كانَ يُـحِـبُّهُ، حتّى إنّني أُفضِّلُ أنواعَ الطَّعام الّتي كانَ يُفضِّلُها، وكُلّما كبرتُ يوماً شعرتُ بأنّني اقتربتُ منهُ أكثر، حتّى إنّ أمّي تُناديني أحياناً: يا أبا وليد! كما كانَ جدّي يُنادَى، فألتفتُ إليها بفخر.
تُرى هل كانَ جدّي يُشبِهُ جدَّهُ؟ وأسرحُ بعيداً، فأتخيّلُ جدّي طفلاً صغيراً، يحكي لهُ جدُّهُ الحكايات، ويَصحبُهُ في نُزهةٍ إلى البُستان، يلعبُ مع الخِراف، ويُسابِقُ البطَّ والإوزَّ... آه يا جدّي! يُـخـيَّلُ لي أنّكَ عشتَ طُفولةً أكثرَ سعادةً من الطُّفولةِ الّتي أعيشُها.
فجأةً شعرتُ بأنّني سعيدٌ جدّاً لأنّني عشتُ مع جدٍّ علّمني كثيراً، وأودعَ في قلبي كلَّ ما يُـحِـبُّ، حتّى شجرتهُ الأخيرة، أشعرُ بأنّها تنبتُ في روحي، فكيفَ أحميها وأحافظُ عليها خضراءَ يانعةً، تُزقزقُ على أغصانِها العصافير؟ لقد أخفقَ جدّي في حمايةِ بُستانِهِ وشجرتِهِ الأخيرةِ، فهل أُخفِقُ أنا في حمايةِ تلكَ الشَّجرةِ الّتي غرسَها في رُوحي، ورعاها بكُلِّ ما يملكُ من حُبٍّ وحنان؟!