جاوزت الساعةُ منتصف الليل وهؤلاء الفتية مازالوا واقفين على قارعة الطريق تحت ضوء المصباح الخافت، وقد ضاعت ملامح وجوههم في ظلمة الليل الدامس، ونفوسهم الضائعة ماجتْ مع عباب هذه الحياة حتى رست على برِّها .
فقد اجتمع هؤلاء الفتية منذ زمنٍ خلا على هرجٍ ومرج، فدقات الساعة لا تُسْمَعْ، وقد تهالكت مسننات الوقت لديهم فما عادوا يشعرون به.
لقد كان جلُّ اهتماماتهم قشور هذه الحياة الزائفة، وقد توقفوا عند لبابها على قارعة هذا الطريق وقد أقفر، وما عاد فيه سوى هبَّات الرياح القاسية وبعض القطط المشردة.
وما هم بأحسن حالاً منها، فهم من التشرد والضياع ما تشيب منه الرؤوس وأصوات ضحكاتهم المرتفعة مع سعالهم تزعج سكونَ الليل، ورائحة تبغهم تخنق الهواء العليل بقبحها.
يعْبُر أحد سكان الحي المجاور يومياً من قربهم -يُدْعَى أبا أحمد وهو رجل فاضل ومكافح- عائداً من عمله الليلي، فيبدؤون بكيل العبارات التافهة المليئة بالسخرية.
في العادة يتحاهلهم ولا يردُّ بل يضرب كفَّا بكف ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله هداكم الله.
فيقول أحدهم بسخرية: اُدْعُ لنا يا شيخ – وهو يسمع قهقهاتهم وهمزهم ولمزهم بصمت، فيثير غضبهم وغيظهم بتجاهله لهم... يصل أبو أحمد إلى البيت منهكا ً تعباً، بعد عناء العمل فيصلي العشاء ويطلب من الله الهداية والتوفيق.
تقول له أم أحمد : هل تعرَّض لك هؤلاء الصبية مجدداً؛ فوجهك قد كساه الحزن والأسى؟
فيجيب قائلاً: يا أم أحمد، الأمانة لم تستطع الجبال حملها، وفي يديك أمانة تربية الأولاد فلا أريد أن أراهم حين يكبرون على قارعة الطريق. وتلا الآية القرآنية: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
تقول أم أحمد: إن شاء الله سأكون على قدر المسؤولية، فجزاك الله خيراً يا عزيزي، أنت تعمل في هذا العمل المضني لتؤمن لنا الحياة الكريمة، وأنا على العهد بإذن الله بأن أتحمَّل معك تربية الأولاد فلن تغفل عيني عن أحدهم، فأنا أراجع لهم الدروس وأتابع صلواتهم، وأعلمهم كتاب الله وأُحْسن تأديبهم وتربيتهم.
فيقول أبو أحمد لها باشَّا في وجهها: بارك الله بك.. ولذا، فأنا مطمئنُّ البال.
تقول أم أحمد بانزعاج : و هؤلاء الفتية لو أحسن أهلُهم تربيتهم لما كانوا على هذه الحال المزرية.
فيستدرك عليها أبو أحمد قائلاً: بل نَدْعُو لهم بالهداية يا أم أحمد، والصحبة السيئة تُعَلِّم الأولاد أموراً قبيحة، فانتبهِي لصحبة أبنائك.. الله يرضى عليك.
يقوم أبو أحمد بضبط المنبه للقيام على صلاة الفجر، ويضع رأسه على الوسادة لينام بعد عناء العمل وضنكه.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ... الصلاة خيرٌ من النوم...
ومع صياح الديك وصوت المنبه يستيقظ أبو أحمد ويوقظ زوجه وولده, ليذهبا إلى المسجد.
فأحمد طفل لم يتجاوز العاشرة، ولكنَّه متفوق في صفِّه ومواظب على الصلاة ويتعلم القرآن على يد الشيخ في المسجد، ويوميًّا يطلب من أبيه أن يوقظه لصلاة الفجر في المسجد، فقلَّما يراه في النهار.
يُقبِّل أحمد يد والده, ويحنو الوالد على ولده ويدعو له بالبركة ويقول: يا أحمد أنت الكبير بين إخوتك فلتكن يا بُنَيَّ قدوةً صالحةً لهم.
يخرج الاثنان إلى المسجد وإذ بهؤلاء الفتية مازالوا على نفس الحال وكأن قارعة الطريق أصبحت ملاذهم الآمن.
يقول أحدهم: أتى الشيخ - بشيء من السخرية - ولكن من معه هذه المرَّة؟!
يقترب أبو أحمد منهم ويقول يا أبنائي هلاَّ دخلتم المسجد معنا وتوضأتم وصليتم ركعتي الفجر لعلَّ الله يُصْلِح حالكم.
فيرد عليه أحدهم صلَّ أنت والصغير وادع لنا – لكن بشيء من الخجل -.
يكمل أبو أحمد طريقه مُحَوْقِلاً، فيقول أحمد: ما قصة هؤلاء الشباب يا أبي؟ فيجيب قائلاً: قصتهم طويلة سأحكيها لك بعد الخروج من المسجد.
لقد صلُّوا الجماعة وخرجوا من المسجد وفي طريق العودة وقد غادر هؤلاء الشبان قارعة الطريق، حينها يَقُص لأحمد قصتهم .
ويقول : يا بُنَيَّ هؤلاء شبان قد أخذتهم الحياة بما فيها من معاصٍ، فأضاعوا أنفسهم وما فلحوا في شيء وأصبحوا نكرةً في هذا الحي، وليس لهم رفيق سوى هذا الطريق، ولو أن حجارته تتكلم لصرخت بأعلى صوتها في وجوههم البائسة تأمرهم بالرحيل.
وصل الاثنان إلى المنزل ورقد كل منهما في فراشه، وبدأ أحمد يفكر بهذه الكلمات التي قالها والده حتى نعست عيناه ونام.
أيقظت الأم ابنها لكي ترسله إلى المدرسة فقد حان الوقت، استيقظ أحمد برضا نفس وقبل يد والدته، غسل وجهه وتوضأ، ثم ارتدى ثياب المدرسة وذهب، لقد مر بنفس الطريق فأخذ ييفكر بكلام والده مرَّة أخرى ويقول لا أريد أن أكون نكرة في هذا الحي ولا في المجتمع فالله وهبني العقل ورزقني الإيمان، أأضيعه في المعصية؟؟
– سبحان الله حتى هذا الطفل تقوده فطرته السوية إلى معرفة الحق والصواب –
.. التفت يمنةً ويسرة، مكان وقوف هؤلاء الشبان، ظنّاً منه أن يرى أحدهم فينصحه ولكن لا أحد.. فقد غطُّوا في نومٍ عميق هرباً من مسؤوليات هذه الحياة.
عاد أحمد من مدرسته، وفي حينها كان الوالد في عمله ، جلس أحمد يتناول الطعام مع والدته وإخوته الصغار، ثم بدأ بتأدية فروضه المدرسية.
أذن المغرب، فنهض أحمد بنشاطٍ وتوضأ، فلقد حان موعد الصلاة.. واليوم لديه درس في المسجد, فهو يحفظ القرآن الكريم .
سرِّحت الوالدة شعره وقبلته على جبهته، وقالت: وفقك الله يا بُنَي، لا تحرجن مع والدك وكن قدوةً صالحة فأنت الكبير، فإن كنت صالحاً سار إخوتك على طريقك، فيرد أحمد قائلا: بإذن الله يا أمي سأرفع رأسك ورأس والدي.
وبعد صلاة المغرب يجتمع الأطفال في حلقة حول الشيخ يتدارسون القرآن الكريم، حتى وصل الشيخ لقوله تعالى:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد: 16].
سمع أحمد هذه الآية واقشعرَّ لها بدنه، وسأل الشيخ عن معناها فشرحها له بشكل مبسط ليقرب له فهمها.
انتهى الدرس وكان المؤذن قد رفع الآذان لصلاة العشاء، صلَّى أحمد وعاد إلى المنزل وهو يردِّدُ هذه الآية في صدره، ويقول لعلَّ هؤلاء الشباب ما سمعوا هذه الآية قط.
فلو سمعوها لما كان حالهم بهذا السوء، دخل أحمد إلى المنزل البسيط الذي يكتنفه دفء العائلة بتقوى الله، وراجع دروسه ووضع رأسه على الوسادة لينام، ليستيقظ فجراً على صوت والده، يسعد أحمد برؤية ويذهبان إلى المسجد آملاً في نفسه أن يكون هؤلاء الفتية على قارعة الطريق، ولكن خاب أمله فلم يجد أحداً منهم، ولكن ظلَّ يردد الآية في صدره، واستمر الحال عدة أيام.
وفي ذات يوم وهما في الطريق إلى المسجد، عبرا الطريق، فوجدا الشبان على نفس حالهم الرديئة، تفوح مع قهقهاتهم رائحة التبغ الكريهة، وبدأ الفتية يستهزئون.. فالتفت أحمد وتلا الآية القرآنية بصوت واثقٍ قويٍّ ووجه يشع إيماناً ونوراً.
صمت الفتية قهراً وغيظاً، فمن هذا الطفل الصغير حتى يعظنا؟!! مرّ أحمد ووالده وما زال أحمد يكرر الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: 16].
لقد افتخر الوالد بوالده، وشعر براحة في نفسه، بينما الفتية في تخبطٍّ وغيظ، فقال أحد هؤلاء الفتية، فعلاً... أَلَمْ يَأْنِ؟ أَلَمْ يَأْنِ؟؟
فيجيبه آخر، ما حلَّ بك يا..... هل أثَّر بك كلام الصَّبي، فردَّ عليه قائلاً: بل كلام الله الذي نسيناه فنسينا.
صمت الجميع بخجلٍ مطبق وأطرقوا إلى الأرض، وبدأ كل واحدٍ منهم يبرِّر حاله كي لا يعترف بخطاياه – قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة: 206]–
ردَّ أحدهم قائلاً: فليصمت الجميع والله لقد آن، فانفضَّ الشبَّان وتكسو وجوهَهم الظلمة كظلمة الليل علامات، كأنها تقول على لسان حالهم: أطفل صغير يخرج منه هذا الكلام ونحن في هذه السنِّ نَكِرَات!!!
لقد قررَّ الفتية أن يجتمعوا على قارعة الطريق، ولكن هذه المرَّة ليس على نفس الحال، وإنما ليعتذروا لذلك الإنسان الفاضل الذي عانى من قلة أدبهم الكثير، لقد اقترب أبو أحمد مُبْتَسِم الوجه، وألقى السلام عليهم فرَدُّوا بصوتٍ خافتٍ يخرج من حناجرهم وكأنه لأول مرَّة، فاستغرب أبو أحمد وقد ابتعد عنهم قليلاً، فقالوا بصوتٍ واحد نحن نعتذر على ما بدر منَّا طوال تلك الليالي من أذىً لك، فالتفت إليهم قائلاً أفقد آن؟؟
فقالوا: بإذن الله، فأجاب سامحكم الله وغفر لكم، اذهبوا إذا إلى بيوتكم ولنلقاكم أنا وأحمد على صلاة الفجر بإذن الله.
ذهب كل واحدٍ منهم إلى بيته، يفكر في حاله ويسأل الله الهداية والمغفرة...
يدخل أبو أحمد المنزل مبتسماً والفرحة على وجهه، ويقول: جزاك الله خيراً يا أم أحمد على التربية فقد أفلحت والله.
فتردُّ أم أحمد: وإيَّاك يا زوجي، وحماك لنا، ولكن ما بك؟
فقصَّ عليها القصة بأكملها وهي في أسعد حال لما تسمع، فنام أبو أحمد من شدة التعب ليستيقظ على صوت المؤذن.
.. وهما في الطريق إلى المسجد، يقول لولده:
- لديَّ اليوم مفاجأةٌ لك يا أحمد
يجيب مبتسماً: وما هي يا والدي؟
- الآن ستعرف.
وعلى قارعة الطريق اجتمع الفتية بغير الهيئة، فلا دخان يتصاعد ولا ضحكات ولا قهقهات.
اقترب الاثنان منهم، فألقى الفتية التحية بصوتٍ واثقٍ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أحمد ويا عم، فردَّ أحمد السلام قائلاً: أوَقَدْ آنَ؟؟ فردَّ الجميع نعم لقد آن، والحمد لله الذي يسرَّ لنا الهداية.
وبارك الله بك يا أحمد، فأنت طفلٌ ولكن الإيمان زيَّن عقلك، وأصبح يزِنُ عقولنا جميعاً، بل ويزيد.
ثم ذهب الجميع إلى المسجد وقد فتح الله على هؤلاء الفتية، ولم تعد حجارة الطريق تشعر بخطاهم إلاَّ إلى المسجد، ولا يكسر صمت السكون إلا صوت السلام، فكم اجتمعوا على ضلال، ولكنهم اجتمعوا الآن مع أحمد ووالده على قارعة الطريق على خير , بعد أن أطمأنت قلوبهم لكلام الله تعالى , فقد كانو عنه غافلين ....
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}[الإسراء: 9].