الْعَامُ الدِّراسِيُّ عَلَى الأَبْوَابِ.. أحلام تَسْتَعِدُّ لِمَرْحَلَةٍ جَدِيْدَةٍ.. كانَتْ تَشْعُرُ فِي الأَسَابِيْعِ الأَخِيْرَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ أَنَّها أَصْبَحَتْ شَابَّةً، لِقُرْبِ انْتِقَالِها إلى الْمُتَوَسِّطَةِ.. والابْتِدَائِيَّة لِلأَطْفَالِ.. اسْتَعَدّت أحلام.. جَهَّزَتْ: حَقِيْبَةً كَبِيْرَةً.. ثِيَاباً.. أَقْلاَماً.. أَوْرَاقاً..
"لَقَدْ كَبِرْتُ.. أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ وأَدْخُلُ الصفَ الأَوَّلَ في المَرحلةِ المُتَوَسِّطْة، فَلاَ يَعُودُ أَحَدٌ يُعاملني كَطِفْلَةٍ صَغِيْرَةٍ".
أحلام تُخَاطِبُ نَفْسَها في الْمِرآةِ: "سَأَدْرُسُ بِكُلِّ طَاقَتِي.. أُرِيْدُ الْنَّجَاحَ الْمُتَفَوِّقِ.. بَعْدَ سَنَوَاتٍ أَدْخُلُ الثَّانَوِيَّةَ، بَعدَ الثَّانَوِيَّة أَدْخُلُ الْجَامِعَةَ.. ما أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ فِي الجَامِعَةِ!".
"سَأَتَخَصَّصُ فِي طِبِّ الأَطْفَالِ.. رُبَّمَا أَدْرُسُ الْهَنْدَسَةَ مِثْلَ أَبِي أَوْ الْأَدَبَ مِثْلَ أُمِّيْ.. أو الْحُقُوقَ لِأَكُونَ مُحَامِيَّةً.. نَعَمْ، إِنَّهَا مِهْنَةٌ رائِعَةٌ، أُدَافِعُ فِيْهَا عَنِ الْمَظْلُومِيْنَ...".
فَكَّرَتْ أحلام: "لا.. لا.. لَنْ أَدْرُسَ الحُقُوْق.. لا أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ مُحَامِيَّة.. سَأَكُوْنُ مُدَرِّسَةً.. مَنْ يَعْلَمْ؟! الْمُهِمُّ الآنَ أنَّني سَأَدْخُلُ الْمَرْحَلَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ.. وَما بَعْدَهَا خَيْر بإذن الله..".
ابْتَعَدَتْ أحلام عَنِ المِرآة.. دَخَلَتْ الْمَطْبَخَ..
أُمُّهَا تُحَضِّرُ طَعَامَ الغَدَاءِ.. قَالَتِ الأُمُّ: "أَهْلاً بِاُبْنَتِي الحَبِيْبَة.. وَصَلْتِ فِي الْوَقْتِ المُنَاسِبِ، هيّا.. حَضِّرِي الأَطْبَاقَ عَلَى الْمَائِدَةِ"..
قَالَتْ أحلام بِاسْتِنْكَارٍ شَدِيْدٍ: "أَنَا أَنْقُلُ الأَطْبَاقَ.. لمَاذَا لاَ تَقُوْمُ بِذَلِكَ خَادِمَتُنَا فَاطِمَة؟؟!!.. ثُمَّ إِنِّي ما زِلْتُ صَغِيْرَةً عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ..!!!!!!!".
"صَغِيْرَةٌ.. صَغِيْرَةٌ؟!.. عَجَباً.. مُنْذُ قَلِيْلٍ كانَ صَوْتُكِ يُلَعْلِعُ فِي الْبَيْتِ.. تَقُولِيْنَ "أَنَا كَبِيْرَةٌ.. أَنَا كَبِيْرَةٌ".. صَوْتُكِ وَصَلَ إِلَى الْمَطْبَخِ.. كُنْتِ تَتَحَدَّثِيْنَ إِلى نَفْسِكِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ.. كَأَنَّكِ تُلْقِيْنَ خِطَاباً أَمَامَ جُمْهُورٍ كَبِيْرٍ عريض"..
تقولُ الأمُّ ذَلك وَهِي تُمَازِحُ ابنتها.. ثم تضيف:
"فَاطِمَةَ مَشْغُولَةٌ الآن بِغَسْلِ أواني الطبخ.. هَيَّا لا تَكُوْنِي كَسُوْلَةً..".
اتَّجَهَتْ أحلام نَحْوَ الأَطْبَاقِ لِتَنْقُلَها إِلى الطَّاوِلَةِ.. قَالَتِ الأُمُّ:
"انْقُلِي الأَطْبَاقَ بِهُدُوءٍ.. احْمِلِي أَقَلَّ مِمّا تَسْتَطِيْعِيْنَ حمْلَهُ..".
*****************
أحلام تُرِيْدُ إنْهَاءَ الْمُهِمَّةِ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ.. هِيَ لا تُطِيْقُ أَعْمَالَ الْمَنْزِلِ.. حَمَلَتِ الأَطْبَاقُ دُفْعَةٌ واحِدَةٌ.. تريد نَقْلها إِلى الْطَّاوِلَةِ بأقلَّ وَقتٍ مُمكنٍ..
خَطْوَةٌ.. خُطْوَتَانِ..
تَعَثَّرَتْ.. وَقَعَتْ.. سَقَطَتِ الأَطْبَاقُ عَلَى الأَرْضِ وأَصْبَحَتْ قِطَعاً مُتَنَاثِرَةً..
هَرَعَتِ الأُمُّ وَالْخَادِمَةُ.. خَوْفاً مِنْ أن تكون أحلام قد تَعَرَّضت لِضرر ما..
قَامَتْ أحلام بِسَلاَمٍ..
الْأُمُّ تَأمَّلتِ الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ.. لَمْ تَتَكَلَّمْ.. ولَمْ تُعَاقِبْ ابْنَتَهَا. قَالَتْ: "أَرْجُوكِ يا فَاطِمَة.. اجْمَعِي الْأَجْزَاءَ الْمُتَنَاثِرَةَ.. أطْفِئِي الْنَّارَ تَحَتَ الطَّعَامِ.. سَأَذْهَبُ إِلى غُرْفَتِي لِأَرْتَاحَ..".
سَارَتِ الْأُمُّ بِهُدُوءٍ.. فيما أَسْرَعَتْ فَاطِمَة تَجْمَعُ الْأَطْبَاقَ الْمُتَنَاثِرَةَ قطعاً قطعاً..
كَانَتْ أحلام تُرَاقِبُ ما يَحْدُثُ... كانت خَائِفَةٌ مِنْ غَضَبِ أُمِّهَا..
*****************
بَعْدَ مضي فترة من الوقت جَاءَ الْأَبُ من عمله فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ..
فَتَحَتِ الْأُمُّ الْبَابَ واسْتَقْبَلَتْهُ بِابْتِسَامَةٍ كَبِيْرَةٍ.. قَالَتْ:
"ما رَأْيُكَ يا زَوْجِيَ الْعَزِيْزَ أَنْ أَدْعُوكَ الْيَوْمَ لِلْغَدَاءِ فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حِسَابِي؟".
قَالَ ضَاحِكاً: " هل احترقت طَبْخَةَ الْيَوْمِ.. لاَ بَأْسَ.. هَيَّا بِنَا فأنا جاهز"..
ذَهَبَتْ أحلام بِرِفْقَةِ أَبَوَيْهَا، رَغْمَ أنَّها حَاوَلَتِ الْتَّهَرُّبَ مِنَ الدَّعْوَةِ.. إلا أن أُمَّهَا أَصَرَّتْ عَلَى ذَهَابِهَا مَعَهُمَا.. كانت أحلام تشعرُ أحلام بِالْذَّنْبِ.. وزَادَ من حُزْنِهَا صَمْتُ أُمِّهَا.. فَهِيَ لَمْ تُفَاتِحْهَا بِالْأَمْرِ.. لَمْ تُحدِّثْ أَبَاها بِالْمَوْضُوعِ مطلقاً..
قَضُوْا وَقْتاً مُمْتِعاً.. ثم عَادُوا بَعدَ الغَدَاءِ فَرِحِيْنَ مُبْتَهِجِيْنَ..
*****************
فِي الْمَسَاءِ اجْتَمَعَتِ الْعَائِلَةُ الصَّغِيْرَةُ بَعَدْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ كَالْعَادَةِ..
لكن الأُمُّ لَمْ تَكُنْ كَعَادَتِها.. لاَحَظَ الْأَبُّ ذَلِكَ فقَالْ: "ما بِكِ يا زَوْجَتِي العَزِيْزَة؟!".
أجابت: "لا شَيءْ..".
قالْ: "أُلاحِظُ حُزْناً فِي عَيْنَيْكِ؟!".
تَدَخَّلَتْ أحلام قَائِلَةً: "هَلْ تَسْمَحِيْنَ لِي بِالْحَدِيْثِ يا أُمِّي؟".
"لا ضَرُورَةَ لِذَلِكُ فالْمَوْضُوْعُ انْتَهَى..".
أَصَرَّ الْأَبُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا حَدَثْ.. أَخْبَرَتْهُ أحلام.. الْأَطْبَاقُ لَمْ تَكُنْ عَادِيَّةً.. إنَّها هَدِيَّةٌ مِنَ الْجَدَّةِ يَوْمَ زَوَاجِ ابْنَتِهَا.. والجَدَّةُ مَاتَتْ قَبْلَ وِلاَدَةِ أحلام بِشُهُورٍ قَلِيلَةٍ..
كَادَ الأَبُ يَنْفَجِرُ غَضباً..
نَظَرَ فِي عَيْنَيْ زَوْجَتِهِ.. رَأَى فِيهما دَمْوعاً تَتَلأْلأْ.. اقْتَرَب مِنْها.. ضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثم قَالْ:
"آسِفٌ جِدًّا.. أَعْلَمُ ما تَعْنِي لَكِ هَذِهِ الْأَطْبَاقُ!".
"الْخَطَأُ خَطَئِي.. ما كَانَ ضَرُورِياً أَنْ أَطْلُبَ مِنْ أحلام الْقِيَامَ بِالْمُهِمَّةِ.. سَمِعْتُهَا تَقُولُ لِنَفْسِها إِنَّها أَصْبَحَتْ كَبِيْرَةً، أَرَدْتُ أَنْ أُشْعِرَهَا بِأَنَّهَا كَبِيْرَةٌ،، أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا..".
قَاطَعَتْهَا أحلام: "لا يا أُمِّي.. أَنا الْمُخْطِئَةُ.. حَاوَلْتُ نَقْلَ الْأَطْبَاقِ دُفْعَةً واحِدَةً.. كَانَتْ أَثْقَلَ مِما تَوَقَّعْتُ".
تَوَرَّدَ وَجْهُ أحلام خَجَلاً.. احْمَرَّتْ عَيْنا الْأُمِّ حُزْناً..
غَمَرَ الْأَبُ زَوْجَتَهُ وابْنَتَهُ.. وَقَالْ: "كَمْ أنا سَعِيْدٌ بِكُمَا.. تَبْحَثَانِ عَنِ الْأَعْذَارِ لِبَعْضِكُمَا بَعْضاً.. كَمْ أَنْتُمَا جَمِيْلَتَانِ لَطِيْفَتَانِ.. لَقَدْ كَبُرَتِ ابْنَتِي فِعْلاً.. أَيَّامٌ قَلِيْلَةٌ، وَتَدْخُلِيْنَ الْمُتَوَسِّطَة..".
توقف الْأَبُ عن الكلام قَلِيْلاً ثُمَّ قَالْ: "بِمَا أَنّكِ كَبِرْتِ يَا أحلام، سَأَذْهَبُ مَعَكِ غَداً لِشِرَاءِ مَجْمُوْعَةِ أَطْبَاقٍ مُشَابِهَةٍ لِلَّتِي انْكَسَرَتْ..".
ثم اِلْتَفَتَ إلى زَوْجَتِهِ... قَائلاً بِعَطْفٍ:
"أَعْلَمُ أَنّ أَغْلَى الْأَطْبَاقِ ثَمَناً لا تَعْنِي لَكِ مِثْلَ هَذِهِ الأَطْبَاقُ الْمُتَكَسِّرَةُ..".
هُنَا.. لمعتْ في قَلْبِ الْأَبِ وَعَقْلِهِ فِكْرَةٌ عَجِيْبَةٌ.. قَامَ فَوْراً وَنَادى الْخَادِمَة:
"فَاطِمَة.. فَاطِمَة.. أَحْضِرِي الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ"..
وضعَ الْأَبُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَاطاً كَبِيْراً..
أَخْرَجَ الْقِطَعَ الْمَكْسُورَةَ مِنَ ْكِيْسٍ أحْضرَتهُأحضؤته الْخَادِمَةُ.. بَدَأَ يَجْمَعُهَا... يُلْصِقُ مَا يُمْكِنُ لَصْقُهُ بِمَادَّةٍ شَدِيْدَةِ الْالْتِصَاقِ.. أَمْضَى وَقْتاً طَويلاً تُسَاعِدُهُ أحلام فِي عَمَلِهِ.. وتَمَكَّنَا بَعْدَ جُهْدٍ كَبِيْرٍ مِنْ إعَادَةِ مجموعة أَطْبَاقٍ إِلى حَالَتِهَا السَّابِقَة.. وبقيت بضعة أَطْبَاقٍ لَمْ تَنْفَعَ مَعَها الْمُحَاوَلاَتِ.. فقد كَانَتْ قِطَعاً صَغِيْرةً جِدّاً..
شَعَرَتْ أحلام أَنْ الْإِنْجَازَ الحَقِيْقِي يَكُوْنُ فِي إتْقَانِ الْعَمَلِ مَهْمَا كانَ بَسِيْطاً، وإِنْ تَطَلَّبَ جُهْداً كَبِيْراً وَوَقْتاً إِضَافِيّاً.. أَدْرَكَتْ أَنَّها لَوْ تُسْرِعْ فِي عَمَلِهَا لَمَا سَقَطَتِ الْأَطْبَاقُ مِنْهَا.. وَلَمَا حَدَثَتْ كُلُّ هذِهِ الْمُشْكِلاَتِ..
فَرِحَ الأَبُ بِإِنْجَازِهِ.. فَرِحَتْ أحلام بِمَا تَعَلّمَتْهُ.. فَرِحَتْ الْأُمُّ بِمَشَاعِرِ الْحُبِّ والْإِخْلاَصِ..
كَانَتْ سَعِيْدَةً سَعِيْدَةً لِأَنَّ ابْنَتَهَا كَبُرَتْ فِعْلاً.. تَحْتَرِمُ مَشَاعِرَ الآخَرِيْنَ.. تَعْمَلُ لِإِسْعَادِهِمْ..
دَخَلَتْ أحلام الْمَدْرَسَةَ.. اشْتَرَكَتْ فِي جَمَاعَةِ الْخِدْمَةِ الاجْتِمَاعِيَّة.. وَجَمَاعَةِ البِيْئَة.. شِعَارُها:
"إِنْجَازُ الْشَّيْءِ بِإِتْقَانٍ مَهْمَا تَطَلَّبَ مِنْ وَقْتٍ أَفْضَلُ مِنْ إِنْجَازِهِ بِسُرْعَةٍ دُوْنَ إِتْقَانٍ"..النهاية.
"لَقَدْ كَبِرْتُ.. أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ وأَدْخُلُ الصفَ الأَوَّلَ في المَرحلةِ المُتَوَسِّطْة، فَلاَ يَعُودُ أَحَدٌ يُعاملني كَطِفْلَةٍ صَغِيْرَةٍ".
أحلام تُخَاطِبُ نَفْسَها في الْمِرآةِ: "سَأَدْرُسُ بِكُلِّ طَاقَتِي.. أُرِيْدُ الْنَّجَاحَ الْمُتَفَوِّقِ.. بَعْدَ سَنَوَاتٍ أَدْخُلُ الثَّانَوِيَّةَ، بَعدَ الثَّانَوِيَّة أَدْخُلُ الْجَامِعَةَ.. ما أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ فِي الجَامِعَةِ!".
"سَأَتَخَصَّصُ فِي طِبِّ الأَطْفَالِ.. رُبَّمَا أَدْرُسُ الْهَنْدَسَةَ مِثْلَ أَبِي أَوْ الْأَدَبَ مِثْلَ أُمِّيْ.. أو الْحُقُوقَ لِأَكُونَ مُحَامِيَّةً.. نَعَمْ، إِنَّهَا مِهْنَةٌ رائِعَةٌ، أُدَافِعُ فِيْهَا عَنِ الْمَظْلُومِيْنَ...".
فَكَّرَتْ أحلام: "لا.. لا.. لَنْ أَدْرُسَ الحُقُوْق.. لا أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ مُحَامِيَّة.. سَأَكُوْنُ مُدَرِّسَةً.. مَنْ يَعْلَمْ؟! الْمُهِمُّ الآنَ أنَّني سَأَدْخُلُ الْمَرْحَلَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ.. وَما بَعْدَهَا خَيْر بإذن الله..".
ابْتَعَدَتْ أحلام عَنِ المِرآة.. دَخَلَتْ الْمَطْبَخَ..
أُمُّهَا تُحَضِّرُ طَعَامَ الغَدَاءِ.. قَالَتِ الأُمُّ: "أَهْلاً بِاُبْنَتِي الحَبِيْبَة.. وَصَلْتِ فِي الْوَقْتِ المُنَاسِبِ، هيّا.. حَضِّرِي الأَطْبَاقَ عَلَى الْمَائِدَةِ"..
قَالَتْ أحلام بِاسْتِنْكَارٍ شَدِيْدٍ: "أَنَا أَنْقُلُ الأَطْبَاقَ.. لمَاذَا لاَ تَقُوْمُ بِذَلِكَ خَادِمَتُنَا فَاطِمَة؟؟!!.. ثُمَّ إِنِّي ما زِلْتُ صَغِيْرَةً عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ..!!!!!!!".
"صَغِيْرَةٌ.. صَغِيْرَةٌ؟!.. عَجَباً.. مُنْذُ قَلِيْلٍ كانَ صَوْتُكِ يُلَعْلِعُ فِي الْبَيْتِ.. تَقُولِيْنَ "أَنَا كَبِيْرَةٌ.. أَنَا كَبِيْرَةٌ".. صَوْتُكِ وَصَلَ إِلَى الْمَطْبَخِ.. كُنْتِ تَتَحَدَّثِيْنَ إِلى نَفْسِكِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ.. كَأَنَّكِ تُلْقِيْنَ خِطَاباً أَمَامَ جُمْهُورٍ كَبِيْرٍ عريض"..
تقولُ الأمُّ ذَلك وَهِي تُمَازِحُ ابنتها.. ثم تضيف:
"فَاطِمَةَ مَشْغُولَةٌ الآن بِغَسْلِ أواني الطبخ.. هَيَّا لا تَكُوْنِي كَسُوْلَةً..".
اتَّجَهَتْ أحلام نَحْوَ الأَطْبَاقِ لِتَنْقُلَها إِلى الطَّاوِلَةِ.. قَالَتِ الأُمُّ:
"انْقُلِي الأَطْبَاقَ بِهُدُوءٍ.. احْمِلِي أَقَلَّ مِمّا تَسْتَطِيْعِيْنَ حمْلَهُ..".
*****************
أحلام تُرِيْدُ إنْهَاءَ الْمُهِمَّةِ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ.. هِيَ لا تُطِيْقُ أَعْمَالَ الْمَنْزِلِ.. حَمَلَتِ الأَطْبَاقُ دُفْعَةٌ واحِدَةٌ.. تريد نَقْلها إِلى الْطَّاوِلَةِ بأقلَّ وَقتٍ مُمكنٍ..
خَطْوَةٌ.. خُطْوَتَانِ..
تَعَثَّرَتْ.. وَقَعَتْ.. سَقَطَتِ الأَطْبَاقُ عَلَى الأَرْضِ وأَصْبَحَتْ قِطَعاً مُتَنَاثِرَةً..
هَرَعَتِ الأُمُّ وَالْخَادِمَةُ.. خَوْفاً مِنْ أن تكون أحلام قد تَعَرَّضت لِضرر ما..
قَامَتْ أحلام بِسَلاَمٍ..
الْأُمُّ تَأمَّلتِ الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ.. لَمْ تَتَكَلَّمْ.. ولَمْ تُعَاقِبْ ابْنَتَهَا. قَالَتْ: "أَرْجُوكِ يا فَاطِمَة.. اجْمَعِي الْأَجْزَاءَ الْمُتَنَاثِرَةَ.. أطْفِئِي الْنَّارَ تَحَتَ الطَّعَامِ.. سَأَذْهَبُ إِلى غُرْفَتِي لِأَرْتَاحَ..".
سَارَتِ الْأُمُّ بِهُدُوءٍ.. فيما أَسْرَعَتْ فَاطِمَة تَجْمَعُ الْأَطْبَاقَ الْمُتَنَاثِرَةَ قطعاً قطعاً..
كَانَتْ أحلام تُرَاقِبُ ما يَحْدُثُ... كانت خَائِفَةٌ مِنْ غَضَبِ أُمِّهَا..
*****************
بَعْدَ مضي فترة من الوقت جَاءَ الْأَبُ من عمله فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ..
فَتَحَتِ الْأُمُّ الْبَابَ واسْتَقْبَلَتْهُ بِابْتِسَامَةٍ كَبِيْرَةٍ.. قَالَتْ:
"ما رَأْيُكَ يا زَوْجِيَ الْعَزِيْزَ أَنْ أَدْعُوكَ الْيَوْمَ لِلْغَدَاءِ فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حِسَابِي؟".
قَالَ ضَاحِكاً: " هل احترقت طَبْخَةَ الْيَوْمِ.. لاَ بَأْسَ.. هَيَّا بِنَا فأنا جاهز"..
ذَهَبَتْ أحلام بِرِفْقَةِ أَبَوَيْهَا، رَغْمَ أنَّها حَاوَلَتِ الْتَّهَرُّبَ مِنَ الدَّعْوَةِ.. إلا أن أُمَّهَا أَصَرَّتْ عَلَى ذَهَابِهَا مَعَهُمَا.. كانت أحلام تشعرُ أحلام بِالْذَّنْبِ.. وزَادَ من حُزْنِهَا صَمْتُ أُمِّهَا.. فَهِيَ لَمْ تُفَاتِحْهَا بِالْأَمْرِ.. لَمْ تُحدِّثْ أَبَاها بِالْمَوْضُوعِ مطلقاً..
قَضُوْا وَقْتاً مُمْتِعاً.. ثم عَادُوا بَعدَ الغَدَاءِ فَرِحِيْنَ مُبْتَهِجِيْنَ..
*****************
فِي الْمَسَاءِ اجْتَمَعَتِ الْعَائِلَةُ الصَّغِيْرَةُ بَعَدْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ كَالْعَادَةِ..
لكن الأُمُّ لَمْ تَكُنْ كَعَادَتِها.. لاَحَظَ الْأَبُّ ذَلِكَ فقَالْ: "ما بِكِ يا زَوْجَتِي العَزِيْزَة؟!".
أجابت: "لا شَيءْ..".
قالْ: "أُلاحِظُ حُزْناً فِي عَيْنَيْكِ؟!".
تَدَخَّلَتْ أحلام قَائِلَةً: "هَلْ تَسْمَحِيْنَ لِي بِالْحَدِيْثِ يا أُمِّي؟".
"لا ضَرُورَةَ لِذَلِكُ فالْمَوْضُوْعُ انْتَهَى..".
أَصَرَّ الْأَبُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا حَدَثْ.. أَخْبَرَتْهُ أحلام.. الْأَطْبَاقُ لَمْ تَكُنْ عَادِيَّةً.. إنَّها هَدِيَّةٌ مِنَ الْجَدَّةِ يَوْمَ زَوَاجِ ابْنَتِهَا.. والجَدَّةُ مَاتَتْ قَبْلَ وِلاَدَةِ أحلام بِشُهُورٍ قَلِيلَةٍ..
كَادَ الأَبُ يَنْفَجِرُ غَضباً..
نَظَرَ فِي عَيْنَيْ زَوْجَتِهِ.. رَأَى فِيهما دَمْوعاً تَتَلأْلأْ.. اقْتَرَب مِنْها.. ضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثم قَالْ:
"آسِفٌ جِدًّا.. أَعْلَمُ ما تَعْنِي لَكِ هَذِهِ الْأَطْبَاقُ!".
"الْخَطَأُ خَطَئِي.. ما كَانَ ضَرُورِياً أَنْ أَطْلُبَ مِنْ أحلام الْقِيَامَ بِالْمُهِمَّةِ.. سَمِعْتُهَا تَقُولُ لِنَفْسِها إِنَّها أَصْبَحَتْ كَبِيْرَةً، أَرَدْتُ أَنْ أُشْعِرَهَا بِأَنَّهَا كَبِيْرَةٌ،، أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا..".
قَاطَعَتْهَا أحلام: "لا يا أُمِّي.. أَنا الْمُخْطِئَةُ.. حَاوَلْتُ نَقْلَ الْأَطْبَاقِ دُفْعَةً واحِدَةً.. كَانَتْ أَثْقَلَ مِما تَوَقَّعْتُ".
تَوَرَّدَ وَجْهُ أحلام خَجَلاً.. احْمَرَّتْ عَيْنا الْأُمِّ حُزْناً..
غَمَرَ الْأَبُ زَوْجَتَهُ وابْنَتَهُ.. وَقَالْ: "كَمْ أنا سَعِيْدٌ بِكُمَا.. تَبْحَثَانِ عَنِ الْأَعْذَارِ لِبَعْضِكُمَا بَعْضاً.. كَمْ أَنْتُمَا جَمِيْلَتَانِ لَطِيْفَتَانِ.. لَقَدْ كَبُرَتِ ابْنَتِي فِعْلاً.. أَيَّامٌ قَلِيْلَةٌ، وَتَدْخُلِيْنَ الْمُتَوَسِّطَة..".
توقف الْأَبُ عن الكلام قَلِيْلاً ثُمَّ قَالْ: "بِمَا أَنّكِ كَبِرْتِ يَا أحلام، سَأَذْهَبُ مَعَكِ غَداً لِشِرَاءِ مَجْمُوْعَةِ أَطْبَاقٍ مُشَابِهَةٍ لِلَّتِي انْكَسَرَتْ..".
ثم اِلْتَفَتَ إلى زَوْجَتِهِ... قَائلاً بِعَطْفٍ:
"أَعْلَمُ أَنّ أَغْلَى الْأَطْبَاقِ ثَمَناً لا تَعْنِي لَكِ مِثْلَ هَذِهِ الأَطْبَاقُ الْمُتَكَسِّرَةُ..".
هُنَا.. لمعتْ في قَلْبِ الْأَبِ وَعَقْلِهِ فِكْرَةٌ عَجِيْبَةٌ.. قَامَ فَوْراً وَنَادى الْخَادِمَة:
"فَاطِمَة.. فَاطِمَة.. أَحْضِرِي الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ"..
وضعَ الْأَبُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَاطاً كَبِيْراً..
أَخْرَجَ الْقِطَعَ الْمَكْسُورَةَ مِنَ ْكِيْسٍ أحْضرَتهُأحضؤته الْخَادِمَةُ.. بَدَأَ يَجْمَعُهَا... يُلْصِقُ مَا يُمْكِنُ لَصْقُهُ بِمَادَّةٍ شَدِيْدَةِ الْالْتِصَاقِ.. أَمْضَى وَقْتاً طَويلاً تُسَاعِدُهُ أحلام فِي عَمَلِهِ.. وتَمَكَّنَا بَعْدَ جُهْدٍ كَبِيْرٍ مِنْ إعَادَةِ مجموعة أَطْبَاقٍ إِلى حَالَتِهَا السَّابِقَة.. وبقيت بضعة أَطْبَاقٍ لَمْ تَنْفَعَ مَعَها الْمُحَاوَلاَتِ.. فقد كَانَتْ قِطَعاً صَغِيْرةً جِدّاً..
شَعَرَتْ أحلام أَنْ الْإِنْجَازَ الحَقِيْقِي يَكُوْنُ فِي إتْقَانِ الْعَمَلِ مَهْمَا كانَ بَسِيْطاً، وإِنْ تَطَلَّبَ جُهْداً كَبِيْراً وَوَقْتاً إِضَافِيّاً.. أَدْرَكَتْ أَنَّها لَوْ تُسْرِعْ فِي عَمَلِهَا لَمَا سَقَطَتِ الْأَطْبَاقُ مِنْهَا.. وَلَمَا حَدَثَتْ كُلُّ هذِهِ الْمُشْكِلاَتِ..
فَرِحَ الأَبُ بِإِنْجَازِهِ.. فَرِحَتْ أحلام بِمَا تَعَلّمَتْهُ.. فَرِحَتْ الْأُمُّ بِمَشَاعِرِ الْحُبِّ والْإِخْلاَصِ..
كَانَتْ سَعِيْدَةً سَعِيْدَةً لِأَنَّ ابْنَتَهَا كَبُرَتْ فِعْلاً.. تَحْتَرِمُ مَشَاعِرَ الآخَرِيْنَ.. تَعْمَلُ لِإِسْعَادِهِمْ..
دَخَلَتْ أحلام الْمَدْرَسَةَ.. اشْتَرَكَتْ فِي جَمَاعَةِ الْخِدْمَةِ الاجْتِمَاعِيَّة.. وَجَمَاعَةِ البِيْئَة.. شِعَارُها:
"إِنْجَازُ الْشَّيْءِ بِإِتْقَانٍ مَهْمَا تَطَلَّبَ مِنْ وَقْتٍ أَفْضَلُ مِنْ إِنْجَازِهِ بِسُرْعَةٍ دُوْنَ إِتْقَانٍ"..النهاية.
- قصة: د.طارق البكري.
- رسوم: عبدالكريم العاجي.