حلّتْ يمامةٌ في غابةٍ مليئةٍ بأنواعٍ شتّى مِنَ الحيواناتِ والطّيورِ، وظَلَّتْ تَحومُ في الأجواءِ تَبْحَثُ عَنْ شَجَرَةٍ مُناسبَةٍ تَبْني عليها عُشّها. وبالفِعْلِ اخْتارَتْ شَجرَةَ أرْزٍ عاليةٍ، مُخْضَرَّةٍ، وكثيفَةِ الأغصانِ.
وما فَتِئَتْ تَعْمَلُ بِجِدِّ ومُثابَرَةٍ حتّى أكْمَلَتْ بِناءَ العُشِّ الجميلِ الدّافئ. وبَعْدَ وقْتٍ وَجيزٍ، وَضَعَتِ اليَمامَةُ بيضَها وحَضَنَتْهُ بكُلِّ سَعادَةٍ مُنْتَظِرَةً اليومَ الّذي ستَرى فيه فراخَها يَمْلأون العُشَّ فَرَحًا وحُبورًا.
وذاتَ يوْمٍ، رأَتِ اليَمامَةُ السّماءَ تَتَلَبَّدُ بالغيومِ الدّاكِنَةِ وبدَأَتْ الرّياحُ تَهُبُّ بِقُوَّةٍ، ورأَتِ الحيواناتِ كلَّها تَجْري مذْعورَةً والطّيورَ في السّماءِ هارِبَةً في أسْرابٍ كبيرَةٍ. فَزِعَتِ اليمامَةُ مِنَ المَنْظَرِ فَسَأَلَتْ غزالَةً مَرَّتْ تَجْري قُرْبَ الشَّجَرَةِ: "ماذا هناكَ أيّتها الغَزالةُ؟ لماذا كلُّ هذا الفَزَعِ؟ لِمَ الجميعُ هارِبٌ بهذا الشّكْلِ؟" أجابَتِ الغزالَةُ بدونِ أنْ تَتَوَقَّفَ عَنِ الرّكْضِ: "هناك إعْصارٌ قادِمٌ! إعْصارٌ كَبيرٌ! "
أحَسَّتِ اليَمامَةُ بالخَوْفِ أكْثَرَ فَكَرَّرَتْ سُؤالَها لِعصفورٍ كانَ يَطيرُ قريبًا منْها، فأَكَّدَ لها الخَبَرَ اليَقينَ: "إعْصارٌ قادِمٌ مِنَ الشَّمالِ. " وأضافَ قائلًا: "اهْرُبي قبْلَ فواتِ الأوانِ."
تَمَلَّكَ اليمامةَ شعورٌ بالحَيْرَةِ والهَلَعِ، هلْ تَهْرُبُ كما فَعَلَ الجَميعُ؟ أمْ تَبْقى في مُواجَهَةِ الإعْصارِ الفَتّاكِ؟
"كيْفَ أهْرُبُ وأَتْرُكُ بيْضي ها هُنا؟ وفراخي عندما تأتي مَنْ سَيَهْتمُّ بها؟ وعُشّي الّذي تَعِبْتُ في بنائِهِ؟" ردّدَتْ مُتسائِلَةً.
راحَتْ تَنْظُرُ إلى شَجَرَةِ الأرْزِ والعُشِّ طويلاً، ثُمَّ نَطَقَتْ بِقرارِها: "هذا بيتي وهنا أنْتَظِرُ مجيءَ فراخي لِتَكتَمِلَ سعادَتي. لنْ أرْحَلَ وسأَبقى مهما كان الثمن."
هربَتِ الحيواناتُ جميعُها، ولم يَبْقَ في الغابَةِ سوى اليَمامَةَ في عُشِّها حاضنة بيْضها بِثَباتٍ، بينما الرِّياحُ تَزْدادُ قُوَّةً وخُطورَةً والأمطار تَشتَدُّ غزارَةً. بَدَأَتْ شجَرَةُ الأرْزِ بالتّمايُلِ بِقُوَّةٍ فخاطَبَتْها اليَمامَةُ وكأنَّها تَفْهَمُها: "يا شجَرَةَ الأرْزِ، لقد اخْتَرْتُكِ مِنْ بيْنِ كلِّ أشْجارِ الغابَةِ لأنّي رأَيْتُ فيكِ الدِّفْءَ والأمانَ. أنتِ بيْتي والغابَةُ وَطَني، وأنا مُتأَكِّدَةٌ أنّكِ لنْ تَخْذُليني لأنّي لمْ أهْجُرْكِ".
ومَعَ ازْديادِ قُوَّةِ الإعْصارِ بأمْطارِهِ ورياحِهِ، كانَتْ شَجَرَةُ الأرْزِ تَزْدادُ اهْتِزازًا، لكنْ و كَأنَّها استمعت إلى كلام اليمامة، كانَتْ تُحاوِلُ بأغْصانِها الوارِفَةِ حَجْبَ الأذى عَنِ الطَّيْرِ والعُشِّ. ولكنَّ الإعْصارَ لَمْ يَهْدَأْ بَلْ ازْدادَ هَيَجانَهُ وَغَضَبَهُ فَكَسَرَ أغْصانَ الشَّجَرَةِ الواحِدَ تِلْوَ الآخَرَ. تَبَلَّلَتِ اليَمامَةُ المِسْكينَةُ وازْدادَ خَوْفُها لكنّها، بالرّغْمِ مِنْ كُلِّ ذلك ظَلَّتْ مُتَمَسِّكَةً بِعُشِّها وبَيْضِها. ومَرَّتِ السّاعاتُ عَصيبَةً ولمْ يَكُفَّ فيها الإعْصارُ عَنْ مُهاجَمَةِ الشَّجَرَةِ، فَكَسَرَ قِسمًا كبيرًا مِنْ أغصانِها ونَثَرَ أوراقَها على الأرْضِ.
و فجأةً، تراجَعَتْ حِدَّةُ العاصِفَةِ وخَفَّ اهْتِزازُ الشَّجرَةِ إلى أنْ تَوَقَّفَ بَعْدَ وَقْتٍ ليسَ بِقَصيرٍ. "أتُراها اسْتَسْلَمَتْ شَجَرَةُ الأرزِ؟ أتُراها هَوَتْ بِفِعْلِ الرّياحِ؟" قالَتِ اليَمامَةُ خائِفَةً. لكنْ حَصَلَ ما لَمْ يَكُنْ في الحِسبانِ.. تَوَقَّفَ الإعْصارُ نِهائيًّا، وكانَتِ اليَمامَةُ غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ أنَّ الرّيحَ العاتيَةَ تَحوَّلَتْ نسيمًا عَليلاً، والأمطارَ إلى زخّاتٍ خفيفَةٍ.
حرّكَتِ اليَمامَةُ جناحَيْها بِهدوءٍ ثُمَّ رَفْرَفَتْ فوْقَ شَجَرَةِ الأرْزِ تَتَفَقَّدُ أحْوالَها. لقدْ فَقَدَتْ الكثيرَ مِنْ أغْصانِها مثْلَ كُلِّ أشْجارِ الغابَةِ، لكنَها ما بَرِحَتْ صامِدَةً في مكانِها. ابْتَسَمَتِ اليَمامَةُ وقالَتْ: "شُكرًا يا شَجَرَةَ الأرْزِ. لقدْ انْتَصَرْنا على الإعْصارِ."
مَرَّتْ أيّامٌ عديدةٌ قبْلَ أنْ تَعودَ الحيواناتُ مِنْ هِجرَتِها إلى الغابَةِ، ومرَّتْ على شَجَرَةِ الأرْزِ فكانَتْ مفاجأَتَهم بأنْ وجَدوا اليَمامَةَ سالِمَةً في عُشِّها. أمّا المفاجأَةُ الأكْبَرُ فكانَتْ عندما أطَلَّ مِنَ العُشِّ ثلاثَةُ فِراخٍ جميلةٍ. أحسَّتِ الحيواناتُ جميعُها بالخَجَلِ بينما أصْبَحَتِ اليَمامَةُ رمزًا للصّمودِ والإصْرارِ على غرارِ شَجَرَةِ الأرْزِ.
قصة و رسوم: خليلو